إسرائيل وتطبيع القتل الجماعي: كيف تصبح الإبادة نقاشًا لغويًا؟

"الجميع تعوّد على قتل مئة غزي في ليلة واحدة"، هكذا صرّح عضو الكنيست تسفي سوكوت على الهواء مباشرة، دون أن يواجه بأي اعتراض من مقدم البرنامج حاييم لفنسون. وبينما بدت أقوال سوكوت وكأنها صدى فج لشهوة الانتقام والتطهير العرقي، كان صمت لفنسون، الإعلامي المفترض أن يكون حارس الحقيقة، هو الأكثر فتكًا بالمعنى.
هذا هو جوهر مقال الصحفي الاسرائيلي يوعنا غونين، في صحيفة هآرتس: كيف لا يتحقق التطبيع مع القتل من خلال المحرضين وحدهم، بل من خلال أولئك الذين يصمتون، يبررون، أو يختبئون خلف جدران اللغة العقيمة والمصطلحات القانونية.
سوكوت يزرع الكراهية، ولفنسون يسقيها بالتواطؤ. وبعد المقابلة، لم يسعَ الأخير إلى توضيح أو تصويب، بل نشر نصًا طويلًا يجهد فيه لنفي أن ما تقوم به إسرائيل في غزة إبادة جماعية، مستخدمًا سردية تتجاهل المعاناة الإنسانية الفعلية لصالح نقاش قانوني جاف. إن تواطؤ الإعلام والنخب الثقافية بهذا الشكل ليس صمتًا بريئًا، بل هو فعل سياسي يصب الزيت على نار الحرب، ويمنح الشرعية المجتمعية للمجازر.
القتل كمسألة لغوية: كيف يُطمس الواقع؟
يبرز الكاتب أن الانشغال بما إذا كانت الجرائم في غزة تُعدّ "إبادة جماعية" أم لا، هو في جوهره انحراف مقصود عن لبّ المسألة: اختفاء عائلات كاملة، قصف المستشفيات، دفن الأطفال تحت الركام، تجويع الملايين، وتهجير السكان. في عالم إنساني سويّ، لا يُطلب من الضحايا إثبات قانوني لموتهم. لكن في إسرائيل، كما يصف غونين، تحوّلت كل هذه الوقائع إلى "مشكلة دلالية" بدلًا من أن تكون أزمة ضمير.
ما يُخيف أكثر من الجريمة نفسها، هو القدرة على تبريرها بلغة فلسفية متعالية، على طريقة لفنسون الذي يرى أن "القانون الدولي ليس قانونًا"، أو محللة في قناة إسرائيلية تعتبره "مثل الإيمان الخرافي". في هذا العالم المعكوس، يصبح القانون اختياريًا، وتُصبح الجرائم قابلة للنقاش بدلًا من أن تكون موضع إدانة حاسمة. وتصبح الأكاذيب وقودًا للآلة العسكرية، وليس فقط نتاجًا لها.
تبرير الحرب باسم العقل… وخيانة الضمير
المقال يعرض كيف أن لفنسون، بدلاً من تفنيد الادعاءات، شنّ هجومًا على خبراء الإبادة الجماعية الذين أكدوا أن ما يجري في غزة يرقى إلى هذا التعريف. لم يناقش حججهم، بل سعى لتقزيمهم، واتهامهم بأنهم يحاولون فقط تبرير وجود اختصاصهم. في هذا الانقلاب الأخلاقي، يصبح الباحثون المدافعون عن الضحايا هم المتهمين، وتُنتزع من المجازر صفاتها بمهارة لسانية لا أقل خطورة من القصف نفسه.
الكاتب يستدعي تغريدة صادمة نشرها لفنسون بعد 7 أكتوبر، قال فيها إن "كثيرين في غزة يجب أن يموتوا اليوم وغدًا"، ثم بعد أيام قليلة عبّر عن انزعاجه من الحديث عن "مدنيين أبرياء". هذه ليست فقط تصريحات مثيرة للاشمئزاز، بل هي أيضًا خرق مباشر للقانون الإسرائيلي الذي يجرّم التحريض على الإبادة الجماعية، على حد زعم مقال هآرتس. ومع ذلك، لم يحاسبه أحد.
من الفاشية العلنية إلى التواطؤ المؤسسي
يحاول لفنسون إنقاذ نفسه بالإشارة إلى وجود تيار "فاشي، كهاني" في المجتمع الإسرائيلي يجب كبحه. غير أن الكاتب رد عليه: من استضاف هؤلاء الفاشيين في الاستوديو؟ من أفسح لهم المجال للحديث؟ من صمت؟ ومن دافع؟ الإجابة: لفنسون نفسه.
غونين شدد على أن الخطر لا يكمن فقط في الذين يصرخون بدعوات الإبادة، بل في أولئك الذين يلبسون قناع الاعتدال، ويتواطؤون معهم تحت ستار الحياد أو العقلانية. إنهم يجعلون الفاشية تبدو وكأنها جزء طبيعي من النقاش العام، ويحولون القتل الجماعي إلى خيار شرعي، أو على الأقل ممكن التفكير فيه.
الإعلام كأداة حرب
ما يكشفه هذا المقال ليس فقط بشاعة الحرب في غزة، بل فضيحة داخلية إسرائيلية تتمثل في انعدام الحواجز الأخلاقية داخل المجتمع والنخب الإعلامية. فالإعلام، بدلًا من أن يضبط خطاب الكراهية، صار حاضنًا له. والمحللون، بدلًا من المساءلة، باتوا يزخرفون الجرائم بكلمات ناعمة.
يدفع غونين القارئ إلى مواجهة سؤال جوهري: ما هو الدور الحقيقي للصحافة في وقت الحرب؟ وهل تتحمل المؤسسات الإعلامية مسؤولية في تطبيع خطاب القتل والإبادة؟ الإجابة الواضحة في المقال: نعم، وبقوة. لأن الخطر الأكبر ليس في القنبلة التي تسقط على غزة، بل في الكلمة التي تهيئ لسقوطها، وتُقنع الناس بأن ذلك "أمر طبيعي".