تحليلات عبرية: المرحلة الحالية من الحرب في غزة تتجاوز الحدود

في 17 أكتوبر 2023، انفجرت أزمة جديدة في الداخل الإسرائيلي بعد قصف مروع طال المستشفى الأهلي في غزة، أوقع نحو 470 شهيدا، بينهم مرضى ومرافقون مدنيون. وبينما اشتعلت ردود الفعل الدولية سريعًا، التزمت إسرائيل الرسمية الصمت لساعات طويلة قبل أن يخرج الناطق العسكري دانييل هاجاري ليدافع عن جيش الاحتلال بالقول إن القصف لم يكن من تنفيذ الجيش الإسرائيلي، بل ناجم عن صاروخ فاشل أطلقته "الجهاد الإسلامي".
لكن حجم المجزرة، وتواصل ارتفاع أعداد الشهداء المدنيين الموثقين يوميًا من قبل وزارة الصحة في غزة، فجر تساؤلات عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه. فالدفاع الإسرائيلي الرسمي بدا أكثر انشغالًا بإبراز وجود أنفاق ومراكز قيادة تحت المستشفيات والمدارس، وكأن هذا كافٍ لتبرير انهيار الأبرياء تحت الركام. هذا المنطق بدأ ينهار تحت وطأة الصور والشهادات الميدانية، وبدأ الخطاب العام في إسرائيل يدخل مرحلة اضطراب غير مسبوقة.
من ضمير جماعي إلى غيبوبة أخلاقية
في مقال بصحيفة "يديعوت أحرونوت"، يطرح الكاتب سيفر بلوتسكر سؤالًا وجوديًا أمام قراءه: ماذا حلّ بضميرنا القومي؟ كيف تحوّلنا من شعب أصيب بهلع أخلاقي بعد 7 أكتوبر إلى متفرج بارد حيال أرقام الضحايا الفلسطينيين التي تتزايد بلا انقطاع؟
من منظور بلوتسكر، لا يمكن تبرير كل هذه الخسائر البشرية تحت ذريعة "الضرورات العسكرية". فالحديث عن عمليات تصفية أو تفجير أنفاق لا يمنح أي تفويض أخلاقي لمحو عائلات بأكملها أو جعل النساء وكبار السن هدفًا غير معلن. يقول الكاتب بوضوح إن ما يحدث لا يدخل ضمن تعريف الحرب العادلة، بل يقترب – بل يتماهى – مع فكرة "الثأر الأعمى". الصمت السياسي في الداخل، خصوصًا من المعارضة الصهيونية التي تغيب عن المشهد، يضيف طبقة أخرى من القلق الأخلاقي والوطني.
بين حلم الدولة وجريمة الحرب
في مقارنته التاريخية، يزعم الكاتب أنه بعد الحرب العالمية الثانية، رفض قادة اليهود تنفيذ أعمال انتقام جماعي ضد الألمان، رغم ما فعله النازيون. فقد اختاروا حينها طريق العدالة لا الثأر، وبنوا شرعية مشروعهم السياسي والأخلاقي على هذا الأساس.
أما اليوم، فيرى بلوتسكر أن ما يجري في غزة يبتعد شيئًا فشيئًا عن الأهداف العسكرية ليقترب من الفوضى الأخلاقية. فهو يشير إلى أن العملية العسكرية الجارية – مهما كان اسمها التوراتي أو مسوغها الأمني – بدأت تتجاوز الحدّ الفاصل بين السعي لهزيمة عسكرية لعدو منظم، وبين عقاب جماعي لسكان مدنيين لا ناقة لهم ولا جمل. إنها لحظة مواجهة عميقة مع الذات الإسرائيلية، لا تقل خطورة عن أي تحدٍ عسكري.
حرب بلا غاية واضحة.. وصمت داخلي مدوٍّ
الأخطر، بحسب المقال، أن هذه الحرب فقدت هدفها المعلن. لم تعد هناك نهاية سياسية أو استراتيجية واضحة تُقدَّم للجمهور الإسرائيلي. اختفت الوعود بالانتصار، وحل محلها "شعارات فارغة"، كما يسميها الكاتب، تتوارى خلفها آلة عسكرية تحصد الأرواح بلا مساءلة أو خجل.
يرى بلوتسكر أن استمرار هذا النهج يعني الانزلاق أكثر نحو هوة سحيقة من التآكل الأخلاقي والسياسي. "إذا كانت الأرقام الفلسطينية صحيحة، فنحن في عمق حفرة أخلاقية"، يحذّر الكاتب، منبهًا إلى أن استمرار الغموض واللامبالاة سيجعل إسرائيل تتآكل من الداخل، قبل أن تنهزم من الخارج.
انقسام داخلي وغياب قيادة
ما يكشفه هذا المقال ليس فقط حجم الكارثة في غزة، بل عمق الأزمة الداخلية التي تعصف بإسرائيل. فهناك شعور متزايد بأن القيادة السياسية والعسكرية فقدت بوصلتها الأخلاقية، وأن النخبة الثقافية والمعارضة الصهيونية تتقاعس عن أداء دورها كموجّه للرأي العام في لحظة مفصلية.
الصمت ليس حيادًا في مثل هذه الأزمات، بل هو تورط. وبينما تحترق غزة بنيران القنابل، تحترق إسرائيل بنيران الشكوك والخذلان الذاتي. وهي أزمة قد تتجاوز حدود المعركة العسكرية إلى أزمة هوية وطنية لا تقل دمارًا عن أي حرب خارجية.