د. سنية الحسيني تكتب: المستقبل النووي الإيراني بعد الحرب

قبل حوالي أسبوعين، شنت إسرائيل حرب معلنة الأهداف على إيران لتدمير قدراتها النووية، في أول مواجهة معلنة ومباشرة بين البلدين، بعد عقود من العداء وحروب ظل غير مباشرة. ورغم هجومها على المنشئات النووية والعلماء النوويين، من بين أهداف أخرى، اعتبرت إسرائيل أنها تحتاج لتدخل أميركي ينجز المهمة من خلال استخدام القنابل الأميركية الخارقة للتحصينات، ذات الوزن الثقيل. وجاء التدخل الأميركي باستهداف المنشئات الثلاث النووية المعروفة فوردو وناتانز وأصفهان، يوم الأحد الماضي، والذي اعتبره الخطاب الرسمي الأميركي ناجحاً في تحقيق الأهداف بدقة بالتدمير الكامل للقدرات النووية الإيرانية. وشكل ذلك الحدث نهاية لتلك الحرب بعد أن استهدفت إيران قاعدة عديد الأميركية في قطر، والتي تشكل أكبر القواعد الأميركية في المنطقة، كرد اعتبار إيراني عن الهجوم الأميركي، في ضربة بدت وكأنها مرتبة، في إطار إتفاق أوسع أوقف هذه الحرب. ارتبطت تلك النهاية للحرب بما أعلنه قبل ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في أعقاب الضربة الأميركية، بالرغبة في إنهاء تلك الحرب، التي حققت أهدافها وفق إدعائه، ورفضه استكمال حرب استنزاف مع إيران، وفق تعبيره. ولا ينفصل ذلك عن الثمن المكلف الذي دفعته إسرائيل في تلك الحرب، والتي قدرت بأكبر تكلفه تتكبدها منذ قيامها في العام ١٩٤٨، واكتشافها بالدليل القدرات الهجومية والدفاعية الإيرانية. يكشف واقع ما بعد الحرب، وفق ملاحظات خبراء مخضرمين، حاضر المشروع النووي الإيراني، ونتائج قد تقلب المعادلات التي تدعي إسرائيل والولايات المتحدة انه تم ارساؤها بعد الحرب.
لم تنته قضية المشروع النووي الإيراني مع نهاية هذه الحرب، بل قد تكون قد بدأت معها مرحلة جديدة في هذا المشروع. فبغض النظر عن ادعاءات الأطراف المتحاربة بالنصر، كل وفق وجهة نظره وتقيمه، بدأت تحليلات لا يمكن تجاهلها تشير إلى عدم تحقيق الضربة الأميركية للهدف الإسرائيلي بتدمير البرنامج النووي الإيراني. فقد أكد تساحي هنغبي، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، أنه "من المستحيل تدمير البرنامج النووي الإيراني بالقوة وحدها". وخلص تقييم استخباراتي أميركي تابع لوزارة الدفاع إلى أن الضربات العسكرية الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية نهاية الأسبوع الماضي لم تُدمر المكونات الأساسية للبرنامج النووي الإيراني، ولكن يمكن أن تأخيره بضعة أشهر فقط. ويرى ذلك التقييمأن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب لم يُدمر، وإن أجهزة الطرد المركزي إلى حد كبير "سليمة". ويتفق جيفري لويس، خبير الأسلحة والأستاذ في معهد ميدلبري للدراسات الدولية، مع ذلك التقييم مؤكداً أن وقف إطلاق النار جاء دون أن تتمكن إسرائيل أو الولايات المتحدة من تدمير المشروع النووي الإيراني.
وزعمت إيران أنها نقلت معظم اليورانيوم المخصب لديها إلى موقع غير معلوم قبل أن تشن الولايات المتحدة غاراتها الجوية على منشآتها النووية. وقال مارك فينو رئيس قسم انتشار ونزع الأسلحة في مركز جنيف للسياسات الأمنية إن إيران توقعت الضربات الأميركية على منشآت التخصيب الثلاث الرئيسية، وتوقع أن إيران قامت بالفعل بنقل مخزون اليورانيوم المخصب. ويسهل نقل اليورانيوم المخصب "على هيئة غاز" إلى مواقع سرية وآمنة، عبر أنابيب محدودة الحجم. كما أنه وعلى الرغم من أن تدمير اليورانيوم المخصب لا يتسبب بانفجار نووي، إلا أنه يؤدي إلى إطلاق غاز سام محدود الضرر، يصيب الموظفين المتواجدين في موقع الانفجار، إلا أن ذلك الغاز لم يتسرب بعد الضربات، سواء كانت الإسرائيلية أو الاميركية، كما أكدت الوكالة الدولية، الأمر الذي يرجح احتفاظ إيران بعد باليورانيوم عالي التخصيب.
كما أن مكونات أجهزة الطرد المركزي صغيرة وسهلة النقل، ويفترض أن تكون إيران قد احتفظت بجزء كبير منها، بعيداً عن الضربات المتوقعه، بالإضافة لاحتفاظها باليورانيوم المخصب. كما أن العاملين في هذه المنشئات العلنية منها والسرية، لم يتواجدوا في تلك المنشئات عند استهدافها، ولايزال معظمهم على قيد الحياة. وتستطيع إيران أيضًا تصنيع أجهزة الطرد المركزي، التي تحسن نسب تخصيب اليورانيوم، وقامت بتطوير أداء تلك الأجهزة عبر السنوات، الأمر الذي يرجع الفرضية أعلاه. قبلالضربات، كانت إيران تملك حوالي ٢٢ ألف جهاز طرد مركزي، حسب التقديرات. واعتبر رافائيل جروسي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعرّض العديد منها لأضرار بعد استهداف منشأة نتانيز وفوردو، نظراً للطبيعةالحساسة لتلك الأجهزة تجاه الاهتزازات. ومع ذلك، يشيرالخبراء إلى أنه لا يُعرف عدد أجهزة الطرد المركزي التي تملكها إيران بالفعل، وتلك التي تمكنت من اخفائها في أماكن سرية. وأكدت صحيفة التليجراف نقلاً عن خبراء، قدرة طهران على إعادة بناء المعدات الحيوية، بما في ذلك أجهزة الطرد المركزي. أعلنت إيران، قبل شن إسرائيل هجومها عليها بساعات، نيتها استبدال أجهزة الطرد المركزي القديمة في منشأة فوردو بأخرى من الجيل السادس الأسرع زمنياً في إنجاز التخصيب. كما أن إيران تمتلك مسحوق خام اليورانيوم المركز المستخرج من المناجم الصحراوية الإيرانية، والذي تقوم المنشئات النووية الإيرانية بتحويله إلىاليورانيوم المخصب.
ويعتقد المسؤولون الأمريكيون أن إيران تحتفظ بمنشآت نووية سرية لم تُستهدف في الضربة. أكد على شمخاني، كبير مستشاري المرشد الأعلى الإيراني، إن القدرات النووية للبلاد بعد الحرب لا تزال صامدة، مشيراً انه، حتى لو دُمرت المواقع النووية، فاللعبة لم تنتهِ بعد، والمواد المُخصبة، والمعرفة المحلية، والإرادة السياسية باقية". وهو الأمر الذي أكده سياسيون وخبراء غربيون، فاعتبر ديفيد لامي وزير الخارجية البريطاني أنه "لا يمكن للضربات أن تدمر المعرفة التي اكتسبتها إيران على مدى عقود، ولا أي طموح لدى النظام لاستخدام تلك المعرفة في صنع سلاح نووي". فعقوداً من العمل الإيراني في مجال الطاقة النووية وفّرتللبلاد مخزوناً من المعرفة وعدداً كبيراً من العلماء الذين يمكنهم مواصلة عملهم. ولفتت كيلسي دافنبورت، الخبيرة في "آرمز كونترول أسوسييشن" أنه لا يمكن القضاء على المعرفة التي اكتسبتها طهران، على الرغم من اغتيال علماء نوويين. إن تدمير المنشئات النووية باختصار لا تعني نهاية المشروع النووي الإيراني، لأن المنشئات المعلنة التي دمرت لا تشكل إلا جزء من المشروع فقط، لكن المواد الخام والإمكانيات العلمية والقدرات الصناعية المحلية كلها بقيت حاضرة. وتمتلك طهران أكثر من ٤٠٠ كيلوجراماتمن اليورانيوم المخصب بنسبة ٦٠ في المائة، وفقاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة. ورغم إمكانية تصنيع أكثر من قنبلة نووية وفق تلك المعطيات، إلا أن تحسين نسبة التخصيب لأكثر من ٩٠ في المائة، يمكن إيران من إنتاج أكثر من قنبلة نووية بحجم مناسب، تمكن الصواريخ البالستية الإيرانية، التي أثبتت نجاعتها خلال هذه الحرب الأخيرة على حملها. وفي العام ٢٠٢٣، كشفت الوكالة الدولية عن وجود جزيئات من اليورانيوم المخصب بنسبة تخطت ٨٣ في المائة، في منشئة فوردو، بررتها إيران بتقلبات غير مقصودة، الأمر الذي يشير إلى أن امكانية الوصول للقنبلة النووية ليست بعيدة، وكانت تحتاج لقرار سياسي فقط.
حاولت إيران طوال العقود الماضية بعد انكشاف سر مشروعها النووي في العام ٢٠٠٢ طمأنه العالم الغربي بسلميّة مشروعها، وأبدت استعدادها للتعاون. وكانت إيران من بين أوائل الدول التي انضمت لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، مع احتفاظها بحقها في الاحتفاظ بالمشروع النووي السلمي، الذي تضمنه الاتفاقية. وأصدر المرشد الإيراني الأعلى فتوى في العام ٢٠٠٣ تحظر امتلاك واستخدام السلاح النووي في البلاد. كما وقعت إيران مع الولايات المتحدة في العام ٢٠١٥ اتفاقا نووياً يفرض قيودا ورقابة على مشروعها النووي. ووافقت إيران على تخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 3.67 في المئة فقط لمدة ١٥ سنة، وابقاؤه بعيداً عن المستويات اللازمة للانتاج العسكري، وخفض مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة ٩٨ بالمئة. كما تم تجميد مشروع بناء مفاعل الماء الثقيل في أراك بموجب ذلك الاتفاق. وخضعت إيران لأشد مستوى من الرقابة الدولية لمشروعها النووي، مقارنة مع أية دولة أخرى في العالم. ورغم ذلك واجه الإتفاق النووي معارضة إسرائيلية، تسببت في فتور العلاقة بين الرئيس الاميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، دون أن تفقد العلاقات بين البلدين بالطبع زخمها. وانسحبدونالد ترامب من الإتفاق في العام ٢٠١٨، انسجاما مع الرغبة الإسرائيلية، دون أن تتمكن الدول الغربية الكبرى، التي ضمنت الاتفاق من حمايته.
كشف الهجوم الإسرائيلي على إيران، والضربة الأميركية اللاحقة عليها، بعد تجربة طويلة من محاولات الالتزام مع الغرب في إطار مشروع نووي سلمي عدم جدوى تلك المحاولات، الأمر الذي يفسر امكانية تنفيذ التهديد الإيراني، الذي جاء قبل الحرب مباشرة، بالانسحاب من اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي، والتي تتيح ذلك لأعضائها. يأتي ذلك في ظل التسريبات المتكررة لمعلومات إيرانالنووية من قبل الوكالة الدولية إلى جهات معادية لإيران، الأمر الذي شكل إخلالاً جسيماً بمبدأ الحياد، ويشكك في نزاهة منظومة الرقابة الدولية. كما أن تلك المنظومة الدولية قد عجزت عن حماية المشروع النووي الإيراني، عندما قامت إسرائيل والولايات المتحدة باستهدافه والاعتداء عليه، وفق الاتفاقية. إن الانسحاب من المعاهدة سينقل إيران إلى وضع "الغموض النووي"، وهو ما سيجعل الدول الأخرى تتعامل معها كدولة نووية محتملة، سواء في العلاقات الدبلوماسية أم في السياسات الردعية والعقابية، والذي يعد تحوّل إستراتيجي في معادلة الردع. وتصب تصريحات كمال خرازي، وزير الخارجية السابق، وعضو في مجلس مصلحة النظام والمقرب من المرشد، في مايو الماضي، حول قدرة بلاده على تصنيع القنبلة النووية في حال واجهت تهديدات وجودية، وتغير عقيدتها النووية، في احتمال حدوث تحول استراتيجي يتعلق بملف إيران النووي بعد الاعتداء الإسرائيلي الاميركي.
كانت حرب الـ ١٢ يوم ما أرادته وخططت له إسرائيل طويلاً، لكن نتائجها لم تأت كما تمت أو اعتقدت. فالواقع يشير إلى أن ما بعد الضربة لن يكون كما قبلها، وأن كل الأطراف باتت تراجع أوراقها في ضوء معادلة جديدة. فقد حذّر محللون من أن البرنامج النووي الإيراني قد يتحول إلى مشروع سري بالكامل بانتقالهللظل، حتى الإعلان عن عسكرته. ورأت صحيفة "بوليتيكو" أن الضربات الأمريكية لإيران ربما تُعجل بقرارها السياسي نحو تصنيع سلاح نووي. فتوازن الردع أو الردع النووي في المنطقة بين إيران وإسرائيل يأتي لصالح المنطقة، ويشجع صعود أقطاب أخرى، دون أن يبقى ذلك حكراً على إسرائيل، الدولة الأكثر اعتداءً على دول المنطقة منذ تأسيسها عام ١٩٤٨. وقد أشار المنظر الواقعي كينيث والتز لتلك الخلاصة من قبل، عندما رأى أن إيران النووية من شأنها أن تساعد على استقرار المنطقة. ومن المعروف أن امتلاك السلاح النووي يشكل قوة ردع بشكل أساس، دون توقع استخدامها. فامتلاك السلاح النووي من قبل القطبين السوفيتي والأميركي خلال الحرب الباردة منع حدوث حرب عالمية ثالثة، طوال كل تلك العقود الماضية. كما أن امتلاك ذلك السلاح من قبل الهند وباكستان يعد السبب الأهم في عدم انفجار حرب نووية بين البلدين حتى الآن. كما أن امتلاك الدولة للسلاح النووي يمنحها قوة ردع ومكانة ونفوذ عسكري وسياسي على المستوى الإقليمي والدولي، ويكبد تلفة عالية في حال الاشتباك معها، ويجعل حدود العلاقات معها تدور في إطار الاحتواء والتفاوض والتفاهم بعيداً عن مهاجمتها، كما يتعامل العالم مع كوريا الشمالية حالياً.
د. سنية الحسيني - كاتبة وأكاديمية فلسطينية