الاختراق الاستخباري... أرشيف المخابرات السورية نموذجاً

فتحت نتائج الحرب الإسرائيلية – الإيرانية، خاصة في أيامها الأولى، شهية وعيون واهتمام الدول والأجهزة الأمنية، بل حتى الشعوب والأفراد، لمعرفة شكل وحجم وأدوات الاختراق الاستخباري الإسرائيلي غير المسبوق للساحة الإيرانية، والذي شكل مفاجأة من العيار الثقيل لجميع الأطراف.
وقبل اندلاع الضربات المتبادلة، كانت طهران وتل أبيب قد أعلنتا عن تحقيق "إنجازات مخابراتية"، في حين يُرجح أن دولًا أخرى حققت اختراقات كبرى في الخفاء على "الجبهة السورية".
الاستخبارات بين الواقع والبروباغندا
أعلنت إسرائيل، بطريقة استعراضية، أنها استعادت أرشيف جاسوسها الشهير إيلي كوهين، في عملية معقدة بالتعاون مع جهاز استخباري حليف، بينما أعلنت إيران أنها حصلت على "كنز استخباري ثمين" من داخل إسرائيل، في عملية سرية واسعة النطاق.
لكن من يطّلع على أبسط قواعد العمل الاستخباري، يدرك أن مثل هذه "الكنوز" لا تُعلن، بل تُدار بسرية تامة. إذ أن الإعلان عنها يُفقدها قيمتها الاستراتيجية، ويدفع الطرف الآخر لتغيير خططه وأهدافه ومصادره، بل وقد يسارع إلى إغلاق الثغرة التي نُفذ منها الاختراق.
لذلك، يمكن الجزم بأن هذه الإعلانات لا تندرج ضمن عمليات نوعية ذات أثر مستقبلي فعّال، بل تدخل في إطار الحرب النفسية والبروباغندا الإعلامية، لتحقيق هدفين رئيسيين:
رفع الروح المعنوية للجبهة الداخلية.
إرسال رسائل ردع وتحذير للخصوم بشأن القدرة الاستخباراتية.
الإعلام العربي بين التلقي والتحليل
تعاملت وسائل الإعلام العربية مع هذه التصريحات كأنها حقائق ثابتة، وكررتها مرارًا دون أن تُخضعها للتحليل أو التمحيص أو التفسير. وهذا يعزز الانطباع بأن القارئ العربي بات يتلقى المعلومة دون مساءلتها، ويتأثر بها دون مقاومة، ما يجعله عرضة سهلة للتلاعب وتوجيه الرأي العام.
الحرب مستمرة بصيغ أخرى
رغم إعلان وقف إطلاق النار بين طهران وتل أبيب، إلا أن مصادر إسرائيلية أكدت أن الحرب السيبرانية والاستخبارية ضد إيران ستستمر، دون اعتبار ذلك خرقًا لوقف إطلاق النار. وفي المقابل، سارعت طهران، بمساعدة من الصين، إلى إنشاء جهاز أمني جديد لمكافحة الاختراق الإسرائيلي، في ظل تقديرات بأن نحو 700 مواطن إيراني، وعدد مماثل من الأجانب، يعملون لصالح الموساد داخل البلاد.
جرس إنذار للعواصم العربية
هذا الاختراق الإسرائيلي واسع النطاق يجب أن يدق ناقوس الخطر في العواصم العربية، التي قد تصحو ذات يوم لتكتشف أن بنيتها الأمنية قد تآكلت من الداخل دون أن تدري.
لذلك، فإن مراجعة شاملة وفورية للخطط العسكرية والهياكل الأمنية والمؤسسات الاستخباراتية، على أساس فرضية وجود اختراق قائم، باتت أمرًا عاجلًا لا يقبل التأجيل.
ولا يُستبعد، بعد انتهاء الجولة الأولى من الحرب مع إيران، أن تقوم إسرائيل بالتحرش سياسياً أو أمنياً بدول عربية، كلما اقتضت مصالحها وأجنداتها التوسعية ذلك.
أرشيف المخابرات السورية... ورقة ابتزاز إقليمي ودولي
تطرح هذه التطورات سؤالًا بالغ الأهمية: ماذا عن أرشيف المخابرات السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد؟ من يمتلكه الآن؟ هل هو بيد السلطة الجديدة في دمشق؟ أم نُقل إلى أطراف ثالثة؟ ومن هي هذه الأطراف؟
خطر امتلاك هذا الأرشيف لا يقتصر على الجانب السوري، بل يمتد إلى الإقليم بأسره، نظرًا لما يحتويه من معلومات حساسة عن:
علاقات النظام السابقة مع دول وجماعات.
التعاون الأمني السري مع أجهزة عربية وغربية.
تفاصيل تتعلق بتنظيمات مسلحة وربما إرهابية.
من يمتلك هذا الأرشيف يمكنه أن يستخدمه:
وسيلة للابتزاز.
أداة ضغط سياسي.
ورقة تفاوض في التسويات الإقليمية والدولية.
من يملك الأرشيف الآن؟
من المرجح أن دولًا مثل تركيا أو قطر أو روسيا أو إيران، حصلت على أجزاء من أرشيف المخابرات السورية، سواء عبر النظام مباشرة، أو من خلال جهات محلية كـ "هيئة تحرير الشام" بعد سيطرتها على دمشق.
ويُستبعد أن يكون النظام السوري قد أتلف كامل أرشيفه الأمني قبل السقوط، لأسباب لوجستية وواقعية، كما تشير تجارب دول أخرى منهارة كالعراق وليبيا وألمانيا الشرقية.
وقد يكون الأرشيف هُرب إلى الخارج، إلى إيران أو روسيا، بهدف استخدامه كأداة تفاوض مستقبلية. كما أن بعض الأفراد النافذين في النظام السابق ربما احتفظوا بنسخ شخصية من الملفات لأغراض حماية أو مساومة.
ماذا بعد؟ تسريبات مرتقبة ومناورات استخبارية
من المحتمل أن تكون فصائل مثل هيئة تحرير الشام، الجيش الوطني، أو الجبهة الجنوبية، قد استولت على أجزاء من الأرشيف، أو أنه تم نهبه من قبل جماعات محلية وبيعه لطرف ثالث.
وبعد تصنيفه وتحليله وفك شفراته، من غير المستبعد أن نشهد تسريبات مبرمجة لمعلومات تدين دولًا أو تحرج أطرافًا أو تؤثر على معارضين، بهدف تصفية الحسابات أو تحقيق مكاسب سياسية.
الملف الاستخباري لم يعد شأناً داخلياً لأي دولة، بل بات جزءًا من هندسة التوازنات الإقليمية والدولية، خصوصًا حين يسقط النظام وتُفتح خزائن الأسرار.